خواطر الليالي الأخيرة ; ثرثرة على هامش العمر .
أود أن أصرخَ الآن بأعلى صوتي في هذه الفراغاتِ وهذا الشارعِ الموحشِ , أشعُرُ أنّ أكوامَ الكلماتِ تثقلُ صمتي وأن الأحرفَ تشبعت منذُ زمنٍ بكثيرٍ من الأشواقِ في انتظارِ طلقةِ البوحِ الاولَى .
أخافُ أنْ أجن , ولم يعد في وسعي التحملُ , فعندما تطلق كلاما حكمتَ عليه بالسجن المؤبدِ وخبأتَه خلف قضبان الصمتِ تصبح كالجندي في حرب مظلمة , يتشابه الموت أمامك ويرتدي كل الأقنعة ولا تعرف أي طلقة يجب أن تبدأ بها وفي أي اتجاه ..
الشارع الضيق يرتدي الظلام الغليظ , وأنا أضم إليّ أكمام " فضفاضتي " كأني أضمك إلي . وأتذكر أني قلت لك ذات مرة إن الحب يفقدنا المناعة ويجعلنا في حاجة دائمة لمن يربت على قلوبنا .وكلما عشقنا قلَّ تحمُّلنا للبرد , لذا نحن نتقمص أحبتنا في معاطف صوفية سميكة , نلفنا بهم وتجزم قلوبنا أنهم على مقاسنا تماما!
أستعيد كلامك ذلك اليوم , حينما قلت لي إن المشاعر التي نرسلها بالبريد مشاعر صادقة , لكنها تختنق وتتآكل حين نتركها عرضة لعبث الأغلفة ورطوبة الانتظار ولا نفتح لها القلب ..
لم أدرك مغزى كلامك إلا الآن وأنا أضمك في مخيلتي , وأقضي هذا العمر الذي ضقتُ عليه ولا أعرف متى يخلعني عند أي زاوية بحجة الشيخوخة .. أقضيه والشتاء يمزقني دون أن أحترق بك عن قرب , دون أن تصبحي على مدّ صفعة مني , ودون أن أنساك أيضا ..
أكنت تعلمين أن حبنا سيبقى على الورق , أومبعثرا في الأثير , وأننا سنظل معاطف صوفية !
أسير عائدا إلى البيت , أتتبع الذكريات وعواء أسلاك الكهرباء تحت جَلدِ الريح , في هذه المدينة كل شيء ينام باكرا , النساء والأطفال والرجال والكلاب , حتى المصابيح تصبح خافتة كأن الأرق والظلام قد أثقلا أجفانها ولا تعرف متى يغلب عليها النعاس ..
هناك أمور كثيرة أريد أن أبكيها دفعة واحدة فالحزن يتشعب في أعماقنا وكلما أغفلناه نما وتكاثر حتى ننفجر مرة واحده أمام أنفسنا آخر الليل عندما ينام الجميع أو في وضح النهار ,
_إننا نبكي فقط حين ننسى أوهامنا ونعترف أن أرواحنا مازالت ضئيلة لا تتحمل خشونة الزمن !
يندفع صوتك المضمخ بالدهشة إلى آذاني , ولا أعرف لم أتعثر بك في كل شيء لكني أتذكر قول ذلك الأعمى : إننا نصاب بالعمى حين تعجز أعيننا عن خلع الظلام , لندرك بعد ذلك أنها لم تعد قادرة على العريّ ولم يعد في وسعها الانكشاف على الأشياء !
منذ تلك اللحظة كلما نظر إلي أشعر أنه يرى ما بداخلي , وأنه يعبر كل الزوايا الحادة وكل مكامن النفس , لذلك أصاب بالخجل أمامه , وأكاد أعتذر كل مرة عن الأحزان التي أخفيها و الدموع المعلقة على مشجب الضعف ..
كيف لرجل يحتاج إلى عكاز ليحتسس به الصخور ويحدد موقع أقدامه أن يعبرني بسهولة دون أن يتعثر وأنا الذي لا أعرف من أنا ..
رجل يلعب "ظامت" باحتراف وذكاء فطريّيْنِ ويحرك " بعر الإبل " دون خوف , وكأنه تعوّد على خسائر الحياة ولم يعد يعبأ بشيء.
__
يتواصل إن شاء الله .
المفضلات